مع الرسم القرآني والتعليل

 

مع الرسم القرآنيوالتعليل

 

الحمد لله الذي علم بالقلم ،والصلاة والسلام على النبي الأكرم ،محمد صلى الله عليه وسلم،وعلى آله وأصحابه الذين حافظوا على القرآن وقراءاته ،وعلى التنزيل وأسراره ،وبعد إن القرآن الكريم هو زادنا الروحي ،الذي بإرشاداته نرى طريق الحق ،وبتوجيهاته يصان شرفنا ،وبأحكامه تقاد حياتنا ،إنه دستورنا الأعظم،ورائدنا الأكرم ومن طبقه قاده إلى الخير والجنة ،ومن هنا وجه العلماء والأئمة اهتمامهم الكلي للقرآن وعلومه ،فمنهم من كتب في بيان معانيه وأحكامه ،ومنهم من ألف في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من دون في أسباب نزوله ،ومنهم من تعرض لبلاغته وإعجازه،ومنهم من تطرق لرسمه وتعليله ،وكان مما تيسر لي القيام به من هذه العلوم،هو علم الرسم التوقيفي عرفه السيوطي ـ رحمه الله ـ بقوله : ( الرسم التوقيفي هو علم يبحث فيه عن كيفية كتابة رحمه الله ـ بقوله: ( الرسم التوقيفي هو علم يبحث فيه عن كيفية كتابة الألفاظ ) وعرفه علماء الرسم القرآني بأنه علم يتعلق بقواعد الرسم القرآني من حذف وإثبات وزيادة وهمز وبدل ووصل وفصل وغير ذلك مما يندرج تحت قواعد هذا الرسم الجليل ورحم الله الشيـخ العاقب إذ يقول

 

                         والخط فيه معجز للنــــــــاس     وحائد عن مقتضى القيــــــــاس

                         لا تهتدي لسره الفــــــــــحول     ولا تحوم حوله الـــــــــــــــعقول

                         قد خصه الله بتلك المــــــنزلة     دون جميع الكتب المـــــنزلـــــة

                         ليظهر الإعجاز فـي المرسوم      منه كما في لفظـــه المنظـــــوم

 

وقال الشيح الخراز في عمدة البيان نقلا عن القاضي عيـــــــاض:

 

                          روى عياض أنه من غيـــرا     حرفا من القرآن عمدا كفــــرا

                          زيادة أو نقصــا أو إن بـــدلا    شيئا من الرسم الذي تأصــــلا

 

وقال الشيخ الكسائي ـ رحمه الله ـ ( في رسم المصحف عجائب وغرائب ،تحيرت فيها عقول العلماء ،وعجزت عنها آراء الرجال البلغاء ،ويتضح من خلال ما تقدم ،أن الله شرف الحرف الذي كتب به كتابه الكريم ،حيث قال ( ن، والقلم وما يسطرون )سورة القلم الآية  1 حتى كأن الحرف بهذا التكريم ،جاء يقول لقارئه بلسان الحال ، ( إنما أنا رسول الله إليك ،جئت لتفهمني وتعمل بي ) ومن هنا تسابق العلماء في البحث عن معاني وأسرار هذا الرسم العجيب الذي تحيرت فيه عقول العلماء كما قال الكسائي ـ رحمه الله ـ غير أن العلماء السابقين لم تصــــل جهودهم إلى ما وصل إليه علماء الساعة من بحوث جادة لعبت دورا هاما في تطور الشأن القرآني ،وفي هذا الصدد قال أبو العباس المراكشي المشهور بابن البناء : ( الرسم القرآني رمز لا يحل إلا بامتلاك مفاتحه ،وعندها تتبدد الشكوك حوله ،وتتلاشى كل التهم التـــي  وجهت إليـه)   فحذف الألف عند أبي عمرو مثلا من إسحـــــاق ،وإسمــاعيل وإبــــراهيم جاء مبنيا على أن يكون الاسم علما،وأن يكون مكررا في القرآن ،وأن يكون حذف الألف في وسط الكلمة ،وأن يزيد الاسم على أربعة أحرف ) وعلى غراره ذهب الكرماني في عجائبه قائلا :( إن كثيرا من حروف الرسم القرآني جاءت تنوب عن الحركات ،كزيادة الياء مثلا بعد الهمزة من لفظة ( من وراءي حجاب )برد الياء إلى الأسفل سورة الشورى الآية 48فابن البناء ـ رحمه الله ـ كان لا ينظر إلى منهجية السالفين ،الذين كانوا يهتمون بما يساعدهم عن كيفية كتابة الكلمات ، بل كان يركز على ما يؤديه هذا الرسم من معان وأسرار وأحكام ،فقال  في توجيه ما صرح به الإمامـان المذكوران : ( إن حذف ألف الكلمات السابقة يحمل معنى غير معروف لدى العرب ،فهو بالنسبة إليهم باطن ،وماجهل معناه حذف ألفه ، وزيدت الياء بعد الهمزة للإشارة إلى أنه وراء خاص بالخالق سبحانه الذي منهكلم الله موسى نبيه عليه السلام ، ومن خلال ما تقدم ، يتضح لنا أن ابن البناء ـ رحمه الله ـ ظهر على مسرح الحياة العلمية وهو مزود بموهبة علمية استطاع بفضلها مع زاده الغزير ،أن يستنبط للأجيال من رسم القرآن سيلا من المعاني والأحكام والأسرار ساعدت في حل كثير مما وقف في طريق علم التفسير ،ومن القيمة العالية للرسم القرآني أنه جاء  سببا في حفظ الاختلاف الموجود أصلا لأن القراءة سنة متبعة ،وبالأمثلة يتضح ما نحن بصدده يقول ربنا الكريم :( يــــاـــأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) سورة النساء الآية 93 فلفظة (  فتبينوا) رسمت في المصحف التوقيفي أو العثماني من غير نقط ، لتبقى صالحة للقراءة بوجهين ،(فتثبتوا ) و( فتبينوا ) لأن كل كلمة تعتبر آية ،فلو رسمت (فتثبتوا) بوجه واحد أو(فتبينوا) بوجه آخر لضاعت إحدى القراءتين ،وبالتالي لضاع القرآن ،وهذا ما يتدخل فيه الرسم القرآني لفظه ،وكلتاهما قراءة صحيحة مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وكذلك الشأن في قوله تعالى :( إن هـــــاــــذان لســــاـــحرا ن )سورة طه الآية 62فقد رسم المقطع القرآني في المصحف العثماني من غير نقط ولا شكل ،ولا تشديد ولا تخفيف في نوني(إن) و(هـــــاــــذ ن) ومجيء الرسم هكذا بغير نقط فتح المجال لقراءة ( إن ) و( هـــــاـــذ ن ) بأربعة أوجه ،يتجلى الوجه الأول ،في قراءة حفص بتخفيف النونين من  (إن) و(هــــاــذان) ويتجلى الوجه الثاني في قراءة ابن كثير بتخفيف نون (إن) مع التشديد في نون ( هــــاــذان ) وذلك للتعويض عن ألف المفرد المحذوفة عند التثنية أما الوجه الثالث فيتجلى في قراءة أبي عمرو بتشديد نون(إن) و(هــــاـــذ ين ) بالياء المخففة ،ويتجلى الوجه الرابع في قراءة  نافع وحمزة والكسائي وابن عامر وشعبة بتشديد نون( إن ) و( هـــاـــذان ) بالألفين بعد الهاء والذال . وكل هذه القراءات وردت بأسانيد صحيحة  ونظرا للعلاقة القائمة بين الرسم التوقيفي والقراءات ، فأقول في تعريفهــــا (إنها تلك الأوجه اللغوية والصوتية التي أباح الله بها قراءة القرءان تيسيرا وتخفيفا على العباد ) أو هي كما قال الزركشي( إنها علم بكيفية أداء كلمات القرآن من تخفيف وتشديد واختلاف ألفاظ الوحي في الحروف ) والمعروف من تاريخ القرآن أنه نزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم ،بوجه واحد لا غير، ومن هذا المنطلق أخذ النبي الكريم ( ص )يقرئ قومه بلغة واحدة ،وهي لغة قريش، غير أنهم وجدوا في هذه القراءة تعبا ومشقة ، فجاء الأمر الإلهي لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ،بأن يقرئ كل قوم بلغتهم ،ومن هنا تحولت المدرسة النبوية من لغة واحدة إلى عدة  أوجه ،فأصبح النبي ( ص ) يعلم للقوم لفظة(الهذلي) مثلا ( عتى حين) بدل ( حتى حين) ويقرئ الأسدي (تِعلمون) بكسر التاء بدل ( تَعلمون) بفتحها ،وهذا التوجيه الإلهي تيسرت قراءة القرآن للعربي بالوجه الذي يراه موافقا للغته. وبالرجوع إلى الرسم القرآني، فأقول :إن القرآن الكريم رسم به ليؤدي دوره العلمي كسائر العلوم ،وفي اعتقادي أن الذين يتفلسفون بأقوالهم في إعجاز هذا الرسم ،فإني أقول لهم إنهم لم يتعاملون معه كأمانة يجب التعامل معها بالبحث الدقيق المبنيعلى الخوف والمسؤولية ،بل ا كتفوا بنظرة سطحية دفعتهم إلى التصريح بما لا يليق بجلال رسم القرآن الكريم ،فلوا تأملوا في رسم الصلواة  بالواو مثلا بدل الألف ،أو بسط التاء هنا وقبضها هناك ،ولوا دققوا بعقولهم في حذف الياء من لفظة ( بهـــــاـــــد)بالروم ،وإثباتها في مثلها بالنمل ،ولوا فحصوا فصل لفظة (كل )عن كلمة (ما) ووصلها بها في غيرها ،ولـوا تاهـوا بعقولهـم في هذه الأسرار من أول القرآن إلى آخر سورة منه لوجدوا أنفسهم مندهشين امام هذا الإعجـــاز القرآنــــــــــي العجيب.