دفاع عن الرسم التوقيفي
- التفاصيل
- المجموعة: تفاصيل
- نشر بتاريخ الأحد, 16 شباط/فبراير 2014 20:13
- كتب بواسطة: الشيخ الدكتور عبد السلام الهبطي الادريسي
- الزيارات: 2721
دفاع عن الرسم التوقيفي
تعرض الرسم التوقيفي منذ عصور ،لاتجاهين مختلفين ،الأول وهو رأي الجمهور ،يقول إنه توقيفي ،وحجتهم الكتاب والسنة ،والإجماع ،والثانييصرح بأنه اصطلاحي ،وبعد قراءتي لما ترك الفريقان من نصوص وتعاليق في الموضوع ،وجدت أن الفريق القائل بتوقيف رسم كتاب الله أنه على حق ثابت ،علما أنني لم أنحز إليه باعتباره أنه مذهب الجمهور ،وإنما انضفت إليه لكونه يسير في اتجاه صحيح قائم على أسس ثابتة ودلائل واضحة ،وهذا ما يسمى بمنهج النقد التاريخي لدى العلماء المسلمين ،ومعناه أنهم لم يقبلوا النصوص دون فحصها بالبراهين،وبناء على هذا ،فكل تراث وصل إلينا بهذا المنهاج وهو يتعلق بالرسم التوقيفي ،فقبوله والجب علينا ،لأنه ما وقع بين أيدينا حتى كان قد سلك تحت عدد هائل من العقول الكبيرة التي بارك الله فيها وهيأها لخدمة هذا الرسم بصدق وإخلاص وعليه ،فما دام كتاب الوحي قد دونوا كتاب الله بأمره صلى الله عليه وسلم فإني أتساءل ،لماذا قام المعارضون للرسم التوقيفي وخرجوا عن هذا المجهود المبارك الذي يستحيل على يد الإنسان أن تساهم فيه دون تدخل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ،الذي هو في نفس الوقت أمر الخالق سبحانه وتعالى ،ويتأكد قولنا هذا ما نجد فيه من أسرار عجيبة لا يمر بها عاقل أو باحث متأمل ،إلا ويعتقد اعتقادا أنها من عند الله تعالى فمثلا لماذا وردت كلمة (القرءان ) 68 مرة كلها بإثبات الألف باستثناء كلمتين فهما بحذف الألف ،في سورة يوسف (إنا أنزلــنــاـه قرءا نا عربيا ) الآية 2والثانية في سورة الزخرف (إنا جعلنــاــه قرءا نا عربيا ) الآية 2 ثم لماذا وردت لفظة (الكتاب ) 230 مرة في القرءان وكل هذه الكلمات ذكرت بحذف الألف باستثناء أربع كلمات وردت بإثباتالألف في سورة الرعد 38وفي سورة الحجر الآية4وفي سورة الكهف الآية 27 ،وفي سورة النمل الآية 1 وأكتفي بهذا للذي له عقل وتأمل ، أما الذي يتكلم دون أن يفكر ،ويستخدم عقله ، فلي معه كلام مدعم بالحجج والبراهين وبحوث منتظر ة إن شاء الله ومن بين نصوص هؤلاء المعارضين التي أشبعوها حرية في التعبير ،وهجوما على رسم كتاب الله جل شأنه نص ابن خلدون الذي جاء فيه ( يقولون في مثل زيادة في ( لأاْذبحنه ) سورة النمل الآية 21 إنه تنبه على أن الذبح لم يقع ،وفي زيادة الياء في (بأييد) سورة الذاريات 47 إنه تنبه على كمال القدرة الربانية ،وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض ) مققدمة ابن خلدون ص419ويقول أبو العباس المراكشي المعروف بابن البناء في تعليل نفس الكلمتين الواردتين في النص السالف الذكر ( زيدت الألف في لفظة ( لأاذبحنه ) للإشارة إلى أن ما يؤخر وهو الموت ،أشد وأقوى على ما يقدم وهو العذاب ،وفي كلمة (بأييد ) قال :( زيدت الياء هنا للدلالة على أن هناك فرقا عظيما بين ( الأيد ) التي هي قوة الخالق ،وبين الأيدي الخاضعة لهذه القوة العظيمة التي بها بنى السماء وغيرها ) ومن خلال هذا التوجيه يمكن استنتاج أن أبا العباس كان عالما موهوبا استطاع بعلمه المبارك أن يكتشف للأمة أسرارا وعجائب من الرسم التوقيفي لتبقى شاهدة على طموحه ونبوغه ومن الذين عارضوا الرسم التوقيفي الدكتور غانم قدوري في كتابه (رسم المصحف ) قال في ( أيه المومنون ) النور21 وفي (يـــاـــأيه الساحر ) الزخرف 49 وفي ( أيه الثقــاـــاــن ) الرحمــاــن 31(حين نتأمل نطق الفتحة الطويلة نجد أنها تتأثر بظاهرة كراهة الاحتفاظ بحركة طويلة ،فاطر الناطق إلى تقصير هذه الحركة الطويلة) ومن خلال ما قاله الدكتور ،يلاحظ أنه أتى بقاعدةموجزة تفيد أن الساكن إذا التقى مع ساكن آخر بعده يحذف ما سبقوهذا الاتجاه بعيد عن الرسم التوقيفي لا يفيد في شيء ،إذن فأين نحن بهذا المسار مما أفادنا به الإما م الكسائي بقوله:( في رسم المصحف عجائب وغرائب ،تحيرت فيها عقول العلماء وعجزت عنها آراء الرجال البلغاء ) وأين نحن بهذا القول مما قالهالعلامة ابن البناء ـ رحمه الله ـ ( الرسم التوقيفي رمز لا يحل إلا بامتلاك مفاتحه ،وعندها تتبدد الشكوك حوله ،وتتلاشى كل التهم التي وجهت إليه ) وبعد ابن خلدون ،ننتقل إلى الدكتور صبحي الصالح الذي قال بعد قراءته لنصوص تتضمن الرسم التوقيفي (لا ريب أن هذا غلو في تقديس الرسم العثماني ،وتكلفا في الفهم ما بعده تكلف ) وأضاف قائلا :(ومن هذا الغلو والتكلف ما نقله ما نقله الزركشي في البرهان عن أبي العباس المراكشي في كتابه (عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل ) وهذا أبوبكر الباقلاني أيضا نجد رأيه المعارض للرسم التوقيفي لا يقل في شيء عن الآيتين السابقتين يقول :(كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص ،وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه ،فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على ذلك )مناهل العرفان ج1 ص382 إذن فالمعارضون بنصوصهم هذه يتبين أنهم لم يحترموا ما صرح به الجمهورالذين يتوفرون على دلائل من الكتاب والسنة والإجماع ،أما الكتاب فقوله تعالى :(علم بالقلم ،علم الانسان ما لم يعلم ) سورة العلق الآية 2 وحجتهم من السنة أمره صلى الله عليه وسلم ،لكتاب الوحي بتدوينه على الطريقة المعروفة اليوم ،بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم ،أمر أحد كتاب الوحي وهو معاوية بكتابة الدستور الذي رسمه لهم فقال :(ألق الدواة وحرف القلم ،وانصب الباء ،وفرق السين ،ولا تعور الميم ،وحن الخط ،ومد الرحمــــاــــن ،وجود الرحيم ،وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك ) ـ ينظر كتاب مروج الذهب ج الثانيص 36أما دليل الإجماع فهو ما نجده في نصوص الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء المجتهدين التي تثبت أن الرسم القرآني توقيفي) كتاب إيقاض الأعلام ص13 لأنه ما معجزا في نظمه ،فإنه لا بد أن يبقى معجزا في رسمه وتعليله ومع جلال هؤلاء الأئمة وفهمهم لكتاب الله ورسمه ،وقدرتهم الكبيرة على استيعاب ما يتضمن هذا الكتاب الخالد من أسرار وإعجاز ،فإننا مع ذلك نجد صبحي الصالح ـ رحمه الله ـ ينفي عنهم القول بتوقيف الرسم القرآني بقوله :(ولكن أحدا من هؤلاء الأئمة لم يقل أن هذا الرسم توقيفي ولا سر أزلي ،وإنما رأوا في التزامه ضربا من اتحاد الكلمة ،واعتصام الأمة لشعار واحد واصطلاح واحد ) ـ مباحث في علوم القرآن ـ للشيخ القطان ص278 كما نجده يؤيد الباقلاني بتأييد ما بعده تأييد ،فيقول :(وإن رأي القاضي أبي بكر الباقلاني لجدير أن يوخذ به ،وحجة ظاهرة ،ونظر بعيد ،فهو لم يخلط بين عاطفة الإجلال للسلف ،وبين التماس البرهان على قضية دينية تتعلق برسم كتاب الله ،أما الذين ذهبوا إلى أن الرسم القرآني توقيفي أزلي فقد احتكموا في ذلك إلى عواطفهم،واستسلموا استسلاما إلى مذاويقهم ومواجيدهموالأذواق نسبية لا دخل لها في الدين ،ولا يستنبط منها حقيقة شرعية ) ونحن رغم هذه الآراء التي تقف في وجه الرسم التوقيفي ،وتعارض جهود الأئمة والعلماء الذين سهروا على محافظة هذا الرسم الخالد وصيانته ،فإننا سنبقى وراء ما قا ل به الجمهور،لأنهم ينطلقون من الحق ،والحق يعلو ولا يعلى عليه ،ومن وراء هؤلاء المحافظين لرسم كتاب الله وتعليله الإمام بدر الدين الزركشي الذي جاء في قوله :(واعلم أن الخط جرى على وجوه :فيها ما زيد على اللفظ ،ومنها ما نقص ،ومنها ما كتب على لفظه ،وذلك لحكم خفية ،وأسرار إلهية ) البرهان ج1 ص380 وهذا القاضي عياض نجده بدوره أيضا يصدر حكمه بالكفر على كل من غير من رسم كتاب الله فقال :(أجمع المسلمون أن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه ،أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجما ع عليه ،وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا لكل هذا أنه كافر ) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج2ص647 وبعد هذه النصوص التي تقر بالرسم التوقيفي فإني أضيف إلى رأي الجمهور أن هذا الرسم ،هو من أمر الله وليس من إنتاج الإنسان كما يدعي الرافضون ،لأن المرء مهما بلغ من سمو الفكر ،فإنه لا يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل الخارج عن نطاقه ،بحذف حرف من القرآن أو إثبات ألف منه ،أو زيادة ياء أو واو ،أو وصل أو فصل أو تبديل أو مد التاء أو قبضها أو غير ذلك مما هو خارج عن دائرة حدوده ،فمثلا إذا قال الحق سبحانه:( رب اغفر لي ) سورة الأعراف الآية 151 فطلب المغفرة من الله واضح للداعي في الظاهر لكن ما يستفاد من باطن المقطع القرآني لا يفهم إلا بتعليل هذا الكلام ومعنى ذلك أن الياء حذفت من لفظة (رب) للإشارة إلى أننا لا نستطيع معرفة حقيقة الله أثناء توجهنا إليه ،أما حذف حرف النداء من أول الكلمة فقد ورد للدلالة على أن خالقنا العظيم يكون قريبا منا أكثر من أنفسنا، إذن من خلال اللفظة المذكورة التي أفادتنا بما تتضمنه من أسرار ،أقول بصدق إن الرسم التوقيفي هو من أمر الله ،وإن حذف الضميرين من كلمة (رب ) هو من تدبير الخالق سبحانه وتعالى ،وليس من غيره ،إذ لو كان من غيره جلت قدرته ،ما عرفنا منه هذه الأسرار التي لا تزيد القارئ العاقل إلا إيمانا بتوقيف هذا الرسم الخالد .ورحم الله الشيخ عبد العزيز الدباغ إذ يقول :(ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولو شعرة واحدة ،وإنما هو توقيف من الله تعالى وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانه لأسرار لا تهتدي إليها العقول ،وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية ،وكما أن نضم القرآن معجز ،فرسمه أيضا معجز ) ــ مناهل العرفان ج1 ص382 وإني أرى أنسب آية تقال في هذا الموضوع كرد على الرافضين (وكأين من آية في السمـــــــو ت والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) سورة يوسف الآية 105.
Hébergement Web offert par www.ADK-Media.com

